من نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة المباركة أن جعل لها مواسم وأزمنة يتضاعف فيها العمل والأجر ومن هذه الأزمنة شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفيه ليلة عظيمة شرفها الله في كتابه وذلك بأن أنزل سورة كاملة باسمها ، إنها ليلة مباركة تعدل ألف شهر وإن نزول الملائكة فيها أكثر من حصى الأرض، إنها ليلة من حرمها فقد حرم الخير كله ، ومن أدركها فقد فاز ورب المشارق والمغارب
أيها المسلم الحبيب ... إنها ليلة تعدل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر، يغفر فيها ذنوب العبد المتقدمة والمتأخرة فلا يفرط فيها عاقل ولا يتهاون فيها إلا غافل محروم. وقد اختلفت أقوال العلماء في هذه الليلة ، وأي ليلة تكون بحسب الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ومن هذه الأقوال ما يلي
القول الأول: أنها أول ليلة من العشر الأخير من رمضان وهي ليلة إحدى وعشرون قال الإمام الترمذي في سننه 3/159 قال الشافعي: وأقوى الروايات عندي فيها ليلة إحدى وعشرين . ويدل له هذا الحديث: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر ، فإذا كان حيث يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه ورجع من كان يجاورمعه ، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي يرجع فيها ، فخطب الناس فأمرهم ما شاء الله ، ثم قال: كنت أجاور هذه العشر ، ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن اعتكف معي فليثبت في معتكفه ، وقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها ، فابتغوها في العشر الأواخر ،وابتغوها في كل وتر ، وقد رأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين فاستهلت السماء في تلك الليلة فأمطرت ، فوكف المسجد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين ، فبصرت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طينا وماء. رواه البخاري في صحيحه 4/259، ورواه مسلم 8/60-61 ( بشرح النووي) ومالك في الموطأ1/319 وأبو داود 2/52 رقم 1382 والنسائي 3/79-80
وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى) رواه البخاري4/260. فقوله " في تاسعة تبقى " أي ليلة إحدى وعشرين
القول الثاني : أنها ليلة ثلاث وعشرين، وهو قول جمع كثيرمن الصحابة وغيرهم من التابعين ، وإليك ما يدل على ذلك: عن عبدالله بن أنيس رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها ، وأنا أصلي فيها بحمدالله فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد فقال: " أنزل ليلة ثلاث وعشرين" ، قيل لابنه: كيف كان أبوك يصنع ؟ قال: ( كان يدخل المسجد إذا صلى العصر ، فلا يخرج منه لحاجة حتى يصلي الصبح ، فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد فجلس عليها ولحق بباديته) ، رواه أبو داود 2/1080 رقم 1380 وابن خزيمة في صحيحة 3/334 والبيهقي 4/309-310 وأحمد في المسند 10/277( الفتح الرباني) وابن نصر في قيام الليل ص:235 وعبدالرزاق في المصنف 4/250 والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/88 وهو حديث حسن
ورواه مسلم في صحيحه 8/64 ( بشرح النووي )ولفظه : قال عبدالله بن أنيس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين " ، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين. فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وأن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه وكان عبدالله بن أنيس يقول ( ثلاث وعشرين)ا
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف 3/77 عن الصنابحي سألت بلال عن ليلة القدر فقال ليلة ثلاث وعشرين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أُتيتُ وأنا نائم في رمضان فقيل لي إن الليلة ليلة القدر. قال فقمت وأنا ناعس فتعلقت ببعض أطناب فسطاط رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإذا هو يصلي فنظرت في تلك الليلة، فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين.رواه أحمد في المسند رقم 2547 و 2302 وإسناده صحيح
وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله إني شيخ كبير عليل يشق عليّ القيام فمرني بليلة لعل الله يوفقني فيها ليلة القدر؟ قال : ( عليك السابعة ) أخرجه أحمد 4/19 رقم 2149 والبيهقي 4/313 والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/87 وإسناده صحيح ، والظاهر أن المراد بالسابعة لسبع بقين من رمضان وقيل لسبع مضين بعد العشرين
وعن عبيدالله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس ينضح على أهله الماء ليلة ثلاث وعشرين رواه عبدالرزاق في المصنف 4/249 ، وابن أبي شيبة في المصنف 4/250. وأخرج ابن نصر في قيام الليل ص:236 وكان أبو ذر رضي الله عنه إذا كان ليلة ثلاث وعشرين من رمضان أمر بثيابه فغسلت واجمرت ثم قام تلك الليلة وهيليلة ثلاث وعشرين. وعن الأسود قال: كانت عائشة توقظنا ليلة ثلاث وعشرين من رمضان. أخرجه عبدالرزاق في مصنفه4/251 وابن أبي شيبة في مصنفه 3/77
القول الثالث: أنها ليلة سبع وعشرين وهذا عليه حمع كثير من الصحابة وغيرهم وهو الجادة من مذهب أحمد ورواية عن أبي حنيفة، وكان أُبي بن كعب رضي الله عنه يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين كما هو ثابت في صحيح مسلم 2/828. فقيل له بأي شيء تقول ذلك ياأبا المنذر قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها، والحديث الذي رواه مسلم عن زر بن حبيش قال:سألت أبي بن كعب فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر فقال رحمه الله: أراد أن لا يتكل الناس أما إنه قد علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين
وفي سنن أبي داود 2/111 رقم 1386 عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر قال: ( ليلة القدر ليلة سبع وعشرين). ورواه أيضا البيهقي 4/312 والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/93 وابن نصر في قيام الليل ص:234 وإسناده صحيح
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين. وقال تحروها ليلة سبع وعشرين يعني ليلة القدر) رواه أحمد في المسند 7/26 رقم 4808 والبيهقي 4/311 وأبو داود الطيالسي 1/200 والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/91 وإسناده صحيح
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا أنها في العشر الأواخر. قال ابن عباس : قلت لعمر : إني لأعلم- أو إني لأظن- أي ليلة هي ، قال عمر : وأي ليلة هي؟ فقلت:سابعة تمضي ، أو سابعة تبقى من العشر الأواخر.فقال عمر ومن أين علمت ذلك؟ فقال: خلق الله سبع سماوات ،وسبع اراضين وسبعة أيام ، وإن الدهر يدور في سبع . وخلق الله الإنسان من سبع ، ويأكل من سبع ، ويسجد على سبع ، والطواف بالبيت سبع ورمي الجمار سبع _ لأشياء ذكرها- فقال عمر : لقد فطنت لأمر ما فطنا له ) وكان قتادة يزيد على ابن عباس في قوله( يأكل من سبع) قال هو قول الله تعالى ( فأنبتنا فيها حبا ، وعنبا ....) رواه عبدالرزاق في مصنفه 4/246-247 وهذا لفظه وأحمد في المسند 1/190 رقم 85 مختصرا. والبيهقي في سننه 4/313 وابن خزيمة في صحيحه 3/323 والحاكم في المستدرك 1/438 وأخرجه ابن نصر في قيام الليل ص:223 وزاد : وإن الله جعل النسب في سبع والصهر في سبع ثم تلا ( حرمت عليكم أمهات) وابن عبدالبر في التمهيد 2/209-210 . وأخرجه الخطيب البغدادي في كتابه ( الفقيه والمتفقه) 2/133 وإسناده صحيح
واستدل بعضهم على ذلك بأن الله سبحانه وتعالى كرر ذكر ليلة القدر في سورة القدر ثلاث مرات وعدد حروف "ليلة القدر" تسعة أحرف والحاصل منضرب ثلاثة في تسعة سبع وعشرون فتكرارها ثلاثا دون غيرها إشارة إلى ذلك واستدل أيضا بأن عدد كلمات السورة إلى قوله " هي " سبع وعشرون وزعم ابن قدامة في المغني 3/180 أن ابن عباس استنبط من عدد كلمات القرآن حيث قال: وحكي عن ابن عباس أنه قال( سورة القدر ثلاثون كلمة ، السابعة والعشرون منها " هي " ) وهذا الاستدلال هو من ملح التفسير وليس من متين الكلام
القول الرابع: أنها في أوتار العشر الأخير ، وبوب عليه البخاري في صحيحه 4/259 فقال رحمه الله : باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر ، قال الحافظ ابن حجر في هذه الترجمة إشارة إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان ثم في العشر الأخير منه ثم في أوتاره لا في ليلة معينة منه بعينها وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها وإليك أخي المسلم الأحاديث الواردة في أنها أوتار العشر الأخير
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان) رواه البخاري 4/259
وفي حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه البخاري 4/259 قال صلى الله عليه وسلم( فابتغوها في العشر الأواخر ، وابتغوها في كل وتر)ا
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اقل رسول الله صلى الله عليه وسلم( أرى رؤياكم في العشر الأواخر ، فاطلبوها في الوتر منها) رواه مسلم 2/823
وفي حديث ابي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله( أما ليلة القدر فالتمسوها في العشر الأواخر وترا) رواه احمد في المسند 15/28 رقم 7892
ويضاف إلى هذا القول "أوتار العشر" آخر ليلة من رمضان ... فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال : ما أنا بملتمسها بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر فإني سمعته يقول ( التمسوها لتسع يبقين أو في سبع يبقين أو في خمس يبقين أو في ثلاث أو آخر ليلة) رواه الترمذي 3/160-161 وابن خزيمة في صحيحه 3/324 وابن حبان كما في موارد الظمآن رقم 924 وأحمد في المسند 10/268 وقال الترمذي حسن صحيح
ويدل ايضا على هذا القول حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر فإنها في وتر إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو في آخر ليلة فمن قامها ابتغاءها إيمانا واحتسابا ثم وفقت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) رواه أحمد في المسند 10/267
القول الخامس: أنها قد تقع في أي ليلة من ليالي العشر الأخير من رمضان وهي في ليالي الوتر آكد من غيرها وهذا القول هو الذي يجمع الأدلة السابقة على اختلافها
فيا أيها المسلم إن قيامك الليل لجميع ليالي العشر الأخير يجعلك تدرك ليلة القدرجزما مهما كان من اختلاف في تحديد ليلة القدر ولا تجعل في ذهنك ليلة محددة فقط تقوم فيها وتترك غيرها وقد تكون ليلة القدر في غيرها فيفوتك فضل قيام ليلة القدر وهو فضل عظيم لا يفرط فيه عاقل ولا يتهاون فيه إلا غافل.فعليك بالحرص على هذا الأمر ولا يقعدك الكسل فما هي إلا أيام معدودة وينتهي الشهر الكريم ، وتذكر كيف كان رسول الله صلى الله عليه يفعل إذا دخلت العشر... كان يعتكف كل العشر الأخير من رمضان ويتهجد الليل كله ويشد المئزر ويعتزل النساء وتذكر دائما ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )، نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعي